إتصل بنا من نحن إجعلنا صفحتك الرئيسية

الملكية والرؤية المستقبلية


عمان جو - بقلم : Dr Charles Saint-Prot د. شارل سان برو في السابع من فبراير عام 1999، تسنّم الملك عبد الله الثاني عرش المملكة الأردنية الهاشمية، وذلك يوم وفاة والده الملك حسين، طيّب الله ثراه. وهو ينتمي بطبيعة الحال الى السلالة الهاشمية العريقة. ومما لا شك فيه بأن الفترة الطويلة التي قضاها الملك حسين على رأس السلطة قد أتاحت له بناء هذه الدولة التي لا يُعقل أن تصبح دولة حيث تتعايش فيها، بشكل او بآخر، قبائل بدوية، وفلسطينيون. فقد استطاع الحسين توطيد أركان حكمه وإضفاء الشرعية على النظام البراغماتي. ومنذ عشرين عاماً، يتولى ابنه الملك عبد الله الثاني الحكم في إطار نظام كرّسه الدستور في الفاتح من يناير 1952. هذا النظام هو عبارة عن ملكية برلمانية، بيد أن الصعوبات التي تواجهها البلاد، نتيجة الاضطرابات الإقليمية منذ اجتياح العراق وموقع الأردن الجيوسياسي ووجود اللاجئين فيها، أدت الى تغيرات أضفت أهمية على دور الملك. فقد ورد في المادة 73 / فقرة 4 من الدستور، المعدلة عام 1974، مع تعديلاتها اللاحقة: " للملك أن يؤجل إجراء الانتخاب العام إذا كانت هناك ظروف قاهرة يرى معها مجلس الوزراء أن إجراء الانتخاب أمر متعذر". وورد في المادة 30 أن " الملك هو رأس الدولة..." وفي المادة 32 " الملك هو القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية والجوية". بهذا الصدد، يشير البروفسور فيليب لوڤو1 الى أن الأردن ليست ملكية برلمانية وفق النموذج الأوروبي. ينبغي تحاشي أي تقييم إيديولوجي بغية تقييم، وبصورة براغماتية، توافق الصيغ المؤسساتية مع الدول التي تسهم في تنظيمها. في مستهل القرن التاسع عشر، كتب جوزيف دو مستر أنه لا ينبغي أن يكون الدستور إنتاجاً فكرياً منقطعاً عن الواقع، بل هو، بكل بساطة، حل لمشكلة هي التالية، كما يقول: " على ضوء نوعية السكان، والأخلاق، والدين، والموقع الجغرافي، والثروات، ومزايا الدولة، حسنة كانت أم 1- Philippe Lauvaux: “ La Constitution de Jordanie” in Les Constitutions Arabes, Christophe Boutin, Jean-Yves de Cara, Charles Saint- Prot (dir.), Paris, Karthala, collection “ études géopolitiques”, 2016. سيئة، يمكن إيجاد القوانين التي تناسبها"2. فيما يتعلق بالمسألة الراهنة، تقوم الخصوصية الأردنية على أن الملكية نجحت في إجراء توليف تام بين العناصر التي أرست مبدأ الشرعية الملكية في سياق العالم العربي: تجسيد وحماية تقليد موروث سابق للدولة الحديثة، وهو تقليد متجذر في الإسلام. إنها شرعية قائد عسكري ذي شخصية كاريزمية، مع قدرة على الاضطلاع بدور دبلوماسي من منطلق السلطة التي تحظى باحترام سائر الفاعلين الدوليين، في بيئة جيوسياسية دائمة التأزم، خاصة منذ الاضطرابات التي انفجرت في العديد من بلدان المنطقة عام 2011. هذا ما حدا بالعاهل الأردني على القول: " قد لا توجد دولة في التاريخ الحديث تحملت آثار الصدمات الخارجية أكثر من الأردن. وعلى الرغم من كل ما يحيطنا من نزاعات وحروب وانهيار لدول وتفسخ لمجتمعات عريقة، وعلى الرغم من كل لاجىء عبر حدودنا ليستظل بالأمان ويذوق طعم الكرامة التي لم يجدها في بلده، وعلى الرغم من كل التحديات التي واجهتنا وما تزال تواجهنا، إلا أننا نثبت لأنفسنا وللعالم أجمع كل يوم، وبعزيمة كل مواطن أردني كم نحن أقوياء"3. وفي خطاب ألقاه في ذكرى الاستقلال، بتاريخ 24 مايو 2016، أعلن الملك: " بالرغم من كل التحديات، إلا أن وحدة الأردن الوطنية الراسخة، وتناغمه الاجتماعي، واجتنابه للعنف يزيده صلابة ومنعة كل مرة". والحال هذه، قادتنا الحقيقة التأكيد على أن الملكية هي التي أتاحت هذه المكتسبات. مما يجعلنا ندرك أن العاهل الأردني يحتل مركز الصدارة في حياة بلاده. وهذا ما أتاح للملكية أن تلعب دوراً مميزاً من خلال رؤيتها الثاقبة الى مسألة تعزيز دولة القانون وتطوير المجتمع بقيادة سياسة وطنية ديناميكية للشباب و للتربية و لتعزيز دور المرأة. وفي هذا الصدد اود أن أحيي الدور الهام الذي تقوم به الملكة رانيا عقيلة الملك عبد الله الثاني التي كرست الكثير من الجهود من أجل هذه المسائل المهمة. ويهدف موضوعي هذا الى التأكيد على أن الملكية هي الوحيدة القادرة على تعزيز الرؤية المستقبلية وإيصالها الى بر الأمان. العاهل الأردني حدد المسار. فمنذ اعتلائه سدة العرش عام 1999، توخى الملك عبد الله الثاني القيام بإصلاحات جذرية. فاعتمد رؤية واضحة حول الإصلاح الشامل والتطور السياسي في الأردن. وفي سلسلة من أوراق العمل، شجع الملك على إجراء حوار وطني يتعلق ببذل الجهود الرامية الى الإصلاح والتطوير السياسي 2- Joseph de Maister: Considérations sur la France (1797), Genève, Slatkine, 1980, p.124. 3- الملك عبد الله الثاني بن الحسين في " سيادة القانون أساس الدولة المدنية"، الورقة النقاشية السادسة، تاريخ 16 تشرين الأول/ اكتوبر 2016. في الأردن. فركز على القيم والأهداف الوطنية الأساسية. وكان يهدف من وراء ذلك الى تعزيز التوافق، وتشجيع المواطنين على المشاركة في اتخاذ القرار، ودعم الحوار البنّاء. فكان أن أعطى زخماً لسيرورة الإصلاح. إن الأمة التي تعمل على نحو سليم، بالنسبة للملك، هي أمة تسود فيها دولة القانون، حيث تسمو روح المواطنة فوق النزعات الطائفية. هي دولة يتمتع فيها المواطنون بنفس الحقوق والواجبات، دون أي تمييز في الدين، او الأصول الإثنية او الوضع الاجتماعي او الانتماء السياسي او الموقف الفكري. في الوثيقة النقاشية السادسة التي أطلقها، أكد العاهل الأردني أن دولة القانون هي ركيزة الدولة المدنية الحديثة. كما أكد ايضاً أن كل مواطن، وكل مسؤول في الدولة وكل مؤسسة سياسية يجب أن تسهم في بناء دولة القانون. من ناحية أخرى، طرح الملك عبد الله مبدأً مفاده أن تعزيز دولة القانون هو ضرورة قاطعة لتوفير السلم الاجتماعي والازدهار والكرامة. فلا تستطيع الأمة بلوغ التنمية المستدامة، وتزويد الشبيبة بوسائل النجاح، خاصة بفضل النظام المدرسي، او المضي قدماً، دون دولة القانون. ومنذ تسلمه سلطاته الدستورية كحاكم للأردن عام 1999، تبنى الملك عبد الله رؤية طموحة وتطورية للبلاد، تقوم على الانفتاح السياسي، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وقيم السلام والتسامح التي نص عليها الإسلام. تبعاً لذلك، تشكل الملكية محرك المبادرات المتعلقة بالتنمية الشاملة. هي محرك المبادرات كونها الضامن للخير العام. إن السعي وراء الخير العام هو، بالنسبة للإسلام، فريضة طالما يعتبر الإنسان مجتمعاً، وفق المنظور العربي- الإسلامي. الإنسان هو عضو في أمة، أي الجماعة المكوّنة من مجموعة أشخاص "متضامنين في شتى شؤون الحياة"4 في مطلق الأحوال، يعطي الفكر العربي الأولوية لخير الجماعة، ويميّز بين هذا الخير العام والمنافع الفردية. وينبذ تلقائياً الإيديولوجيا الفردانية. ويتقارب هذا المفهوم مع مفهوم توما الأكويني وحقبة الكنيسة الكاثوليكية التقليدية. إن القاعدة الأساسية، بالنسبة للعالم العربي- الإسلامي، كما بالنسبة للعالم الكاثوليكي والأرثوذكسي، تقوم على أن الدولة هي الضامن للخير العام. لهذا السبب تحتاج الأوطان الى دولة تكون في خدمة المنفعة الوطنية التي تشكل إرهاص الصالح العام. والحال هذه، من يستطيع، أفضل من الملكية، أن يقدم الصالح العام والمنفعة العامة في مواجهة المنافع الخاصة والأنانية؟ إن الإجماع لصالح الشرعية الملكية قوامه الشرع. ثمة إجماع من أجل الملكية لأنها تمثل السلطة الضرورية 4- Watt Montgomery. Muhammad, Prophet and Statesman. Londres, Oxford University Press, 1961. ( التي ينبغي حتماً تمييزها عن الاستبداد)، وإجماع على الوحدة الوطنية والاستمرارية التاريخية. وتجسد الملكية، بالنسبة للشعب، القيم الوطنية المشتركة وتضمن الخصوصية الوطنية. إن الملك هو فوق الفئات والأحزاب وسائر القوى الأخرى. ويُنظر إليه وكأنه الملاذ الأعلى والحكم والربان. ويشير التاريخ الى أن أفول الدولة مرده دائماً الى تراخي السلطة. وقد أوضح ريمون آرون أن أزمة السلطة هي الأزمة الحقيقية للحضارات5. وبالتالي فالملكية هي الوحيدة التي تجسد السلطة العادلة. كذلك، تعتبر القدرة على التكيف خاصية تتميز بها الملكية التي تتفرغ لها. وهي قدرة غير خاضعة للتقلبات الانتخابية. والحال هذه، فإن القدرة على التوقع هي ضرورية في السياسة. لذا، يجب امتلاك حرية الاختيار وعد التأرجح في مهب الأحداث. كتب ريڤارول: " عندما نريد الحؤول دون أهوال ثورة ما، ينبغي أن نسعى إليها ونقوم بها بأنفسنا" بعبارة أخرى، يجب تحاشي التأسن. ونشير الى أن الملكيات، كما الأردن والمغرب، مقتنعة بضرورة تبني مقاربة دينامية، مع إعطاء الأولوية لفريضة الاجتهاد التي يدعو الى القيام بها الفكر الإسلامي السليم، الإصلاحي بطبيعته. أما المسألة المتعلقة بقدرة الملكية على التأقلم فتكمن في مواكبتها للمصلة العامة. فالملكيات تجسد روح الاستقلال، بل ايضاً الوحدة الوطنية الضرورية. ويعتبر التقسيم والطائفية والانفصالية من التهديدات التي تتعرض لها الدول. وهو خطر قائم بصورة خاصة في العالم العربي: في العراق، في سوريا، في لبنان، في المملكة العربية السعودية، وفي اليمن وليبيا والجزائر... إنها مسألة غاية في الأهمية، ذلك أن الخطر يكمن، في البلدان العربية، كما في البلدان الأوروبية- وفي أي مكان ايضاً- في تشكّل كيانات مصطنعة تتذرع بانتماءات مذهبية وإثنيات وهمية، أي إنه خطر العودة الى الأنظمة القبلية. يبقى أن أحد التحديات الكبرى هو تعزيز الوحدة الوطنية والحفاظ عليها. تلك هي تحديداً مهمة الدولة ( هو ذا موضوع كتابي الدولة- الأمة في مواجهة أوروبا القبائل6). عموماً، يمكن القول بأنه إذا كانت الملكيات قوية ومستقرة فذلك لأنها تمتلك فكرة ما عن الدولة. وكذلك لأن الملك هو قبل كل شيء إنسان ينظر الى البعيد ويستفيد من الاستمرارية، والملكية هي العامل الفاعل الرئيس 5- Plaidoyer pour l’Europe décadente 6- Charles Saint-Prot, l’État- nation face à l’Europe des tribus, Paris, éditions du Cerf, 2017 في التطور والتنمية في مواجهة التنزعات المحافظة مهما كان نوعها. في نهاية المطاف، يحدوني القول بأن الملكية تجمع كونها في خدمة المصلحة العامة والوطن ولا وجود للمصالح الخاصة. وهي تخلو من إحدى النقائص الكبرى التي تكتنف الجمهورية، وأعني بها التهافت على السلطة والمطامع الشخصية لدى رجالات السياسة. كما أنها تمثل الاستمرارية وتتيح رؤية بعيدة المدى وغير مرحلية وغير مرتبطة بالانتخابات. الملكية هي الحياة. وهي مقتنعة دون شك بوحدة المصير بغية القيام بأي عمل بصورة مشتركة. وهذا ما يُطلق عليه تسمية التاريخ. إن الأمة هي وحدها التي تشكل " أثمن الحريات" لأنها تهب الإنسان كرامته بحيث تتيح له بأن يكون، ليس فقط حيواناً اجتماعياً، بل ايضاً حيواناً تاريخياً. عبر الأمة، يمكن للفرد الزائل زالمجتمع الزائل تحدي الموت والعدم. وهنا ايضاً، تجسد المكلية هذا الدفق الحيوي. لهذا السبب، فإن الملكية هي التي يمكن أن تقدم أية رؤية مستقبلية. ولسوف أتناول هنا نموذج الجنرال ديغول. فعام 1945، إبان التحرر، ثم من عام 1958 الى عام 1979، تمكن الجنرال ديغول، والى حد كبير، من تغيير المشهد السياسي والاجتماعي الفرنسي عندما أدخل غصلاحات جذرية. لكنه ما أن تخلى عن السلطة حتى عمدت القوى السياسية والأحزاب الى تقويض ما قام به. ونشهد منذ حوالي أربعين سنة تدميراً منهجياً لإنجازات الجنرال ديغول لصالح الأحزاب وجماعات المصالح والقوى الخفية التي تذعن للخارج وتزعزع السيادة الوطنية. لم يكن هناك أية رؤية مستقبلية ولا يرنو السياسيون إلا الى الانتخابات المقبلة، أي أنهم يعيشون يوماً بيوم. فلا ينقص فرنسا سوى ملكية وطنية. من حسن حظ الأردن أن يحكمه ملك. وهذا ما يسمح برؤية واضحة وعمل جذري من أجل بناء المستقبل. *مدير عام مرصد الدراسات الجيوبوليتيكية في باريس *of Dr Charles Saint-Prot Conference at University of Petra




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمان جو الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :